الدرس الثامن : لسانك في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد : فلسانك له عبادة في رمضان، بعضها ذكر، وبعضها صمت، فالصمت من معاني الصوم، كما قالت مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26]، وصومها المنذور كان صمتاً وسكوتاً عن الكلام، أما الصمت المطلوب في صومنا فهو الإمساك عن ذنوب اللسان، والكف عن آفات النطق، فللنطق والكلام آفات هي حصائد الألسنة التي قال عنها النبي ﷺ: وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟! [ أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة )
وهذه الحصائد كثيرة، منها الغيبة والنميمة والكذب وكلمات الهمز واللمز والزور والازدراء والتحقير، وأشد من هذا كلمات الكفر والشرك التي يخلد بها المرء في الجحيم إذا لم يخلص التوبة لرب العالمين؛ وإذا لم يحفظ الإنسان لسانه من تلك الآفات المحرمة في صيامه، فماذا يفيده صومه، وهل تتحقق به التقوى المنشودة من الصوم؟!
إن آفة واحدة من آفات اللسان وهي قول الزور، تذهب بروح الصيام وتزهقها، فقد قال رسول الله ﷺ: من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حجة في أن يدع طعامه وشرابه[رواه البخاري ]، ولهذا نهى النبي ﷺ في حديث آخر عن تصديع جدار الصيام بتلك الآفات، فيصبح غير صالح لأن يكون جُنة أو وقاية، قال عليه الصلاة والسلام: الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم [ رواه مسلم ]، فبيَّن النبي ﷺ أن الرفث وهو الفحش ورديء الكلام وكذلك الفسق والجهل وما يترتب عليهما من إطلاق اللسان فيما لا يليق، كل ذلك يعطل الصيام عن أن يكون جنة، أي وقاية من النار.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “ كم من صَائِم عَن الطَّعَام مفطر بالْكلَام دائب على الْقيام مؤذ للأنام فَهُوَ من لِسَانه وَفعله موزور وعَلى صِيَامه وقيامه غير مأجور، أَيْن من زاغ عَن الْهدى ودال على سَبِيل الردى، بل أَيْن من رانت الذُّنُوب على قلبه وَلم يُبَادر بِالتَّوْبَةِ من ذَنبه وَلم يخف من عَذَاب ربه وَيحك يَا مِسْكين: اغتنم شهر رَمَضَان المتضمن بِالرَّحْمَةِ والغفران، وَانْظُر لنَفسك يَا مِسْكين قبل أَن تصل إِلَى حلقك السكين”[بستان الواعظين ].
في « صحيح الأدب المفرد » عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قِيَلَ لِلْنَّبِيِّ - ﷺ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ، الْنَّهَارَ وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِيَ جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ ﷺ «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ»
تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ الْنَّهَارَ، وَتَفْعَلُ! - هكذا بإبهامٍ للتفخيمِ والتعظيمِ والتكثيرِ وَتَصَدَّقُ ولم يَذكر المُتَصَدَّقَ به؛ لتهويلِهِ وتفخيمِهِ-، وهي مع ذلك تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟! قَالَ ﷺ «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ» فلم يَعْتَدَّ بهذا الذي أتت به من الصيامِ والقيامِ وفِعْلِ الخيراتِ والصدَّقة؛ لأنه لم يُثْمِر شيئًا ذا قيمة؛ تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا؛ قَالَ: «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ» قَالَوا: وَفُلَانَة تُصَلِّي الْمَكْتُوْبَةَ، وَتَصَّدَّقْ بِأَثْوَارٍ-جَمْعُ ثَوْرٍ، وهي القطعةُ من الجُبْنِ المُجَفَّف وتَصَّدَّقْ بِأَثْوَارٍ - والتنوينُ في «بأثوارٍ» للتقليلِ– وتَصَّدَّقْ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ قَالَ ﷺ «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»
أيها المسلمون : شتان بين العبادتين : بين عبادة تدفع إلي الخير، وعبادة لم توقف صاحبها عن الإيغال في الشر؛ فالعبادةُ الحقيقةُ تَدْفَعُ صاحبَها إلي فِعْلِ الخَيْرَاتِ، والتَّحَلِّي بمَكَارمِ الأخلاقِ، والإحسانِ إلى الناسِ، والانْكِفَافِ عن الأذى والشرِّ، وكلُّ عبادةٍ لا تُثْمِرُ ذلك؛ فهي عبادةٌ لا خَيْرَ فِيهَا، ومِنْ ثَمَّ لا خَيْرَ فِيهَا لصَاحِبَهَا؛ فتأمل أخي هذا الحديث وأمسك عليك لسانك كما قال ﷺ وانظر إلى حال السلف في حفظ اللسان : قال أحد السلف " صحبنا الربيع بن خثيم عشرين سنة، فما تكلم إلا بكلمة تعليه عند الله" [حلية الأولياء].
وعن رجل من بني تميم، قال: "جالست الربيع عشر سنين، فما سمعته يسأل عن شيء من أمور الدنيا، إلا مرتين: قال مرة: والدتك حيّة؟ وقال في الثانية: كم لك مسجداً؟" [حلية الأولياء ].
وقال آخر: " صحبت الربيع عشرين عاماً، ما سمعتُ منه كلمة تُعاب" [الزهد لأحمد بن حنبل]. وعن محمد بن سوقة، قال: " أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم؛ فإنه قد نفعني، قال لنا عطاء بن أبي رباح: يا بني أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله -عز وجل- أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين، كراماً كاتبين؟ عن اليمين وعن الشمال قعيد؟ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته يوم القيامة ليس فيها من أمر دينه ولا دنياه؟" [حلية الأولياء ].
وقال إبراهيم الحربي: "ما أخرجتْ بغداد أتمّ عقلاً من بشر الحافي، ولا أحفظ للسانه منه، ما عُرِف له غيبة لمسلم" [البداية والنهاية ]
قال الإمام ابن دقيق العيد: "ما تكلمتُ كلمة، ولا فعلتُ فعلاً، إلا وأعددتُ له جواباً بين يدي الله -عز وجل-" [طبقات الشافعية الكبرى للسبكي].
وعن أبي بكر بن عياش، قال: "أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى به عافية، وأدنى ضرر المنطق الشهرة، وكفى بها بلية" [سير أعلام النبلاء ].
قال مورق العجلي: "تعلمتُ الصمت في عشر سنين، وما قلتُ شيئاً قط إذا غضبتُ أندم عليه إذا زال غضبي" [ نزهة الفضلاء ].
إنها أيام قليلة أيها الصائم فعظمها واغتنمها وحصنها من سيف اللسان، وسهام النطق في الجد والهزل وفي الرضا والغضب؛ اللهم احفظ ألستنا ووفقنا لعبادتك في رمضان؛ وبعد رمضان؛ آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إرسال تعليق
فضلاً اترك تعليق لتشجيعنا